لمّا صار العالم الذي تعرفه ينهار ، والأشياء التي كانت في طفولتها باتت تتسرّب من داخل روحها للبعيد .. وصارت الحكايا التي تعرفها عن الأصدقاء مجرد حكايا خيالية تسرقها من تحت سريرها وتقرأها ليلاً ... إلا أنها وبعد ألف خيبة قررت أن تجمع تلك الحكايا وتلقيها في صندوق أسود وتبقيها تحت سرير الطفولة ..
كانت كمن يمشي وسط زحمة الأشخاص في عتمة الأيام وكل من كانت ترتطم بهم كانت تحس بأجسادهم قاسية عصيّة على الشّعور بها وبجسدها النّحيل ، ليس فيها أيّ جسد واحد ليّن لا يشعرها بألم الارتطام .
جميعهم آلموها وتكسّر في روحها ألف قلب حتى لم تعد روحها مكاناً آمناً للعيش فيه . هي المهووسة بالأشياء الصغيرة البسيطة ، بات العالم يتكوّم على شكل غصّة تعجز عن ابتلاعها ، تلك الغصّة جعلت منها انسانة هشّة تتلعثم عندما يتكوّم الحديث في صدرها .
كل تلك التفاصيل الصغيرة والبسيطة ، وكل تلك الأحلام الساذجة التي كانت ترسمها ، وكل انقباضة قلب أوهمتها بأنها سعيدة وكل الأشخاص المُغيَّـبين عن حياتها باتت تسبب لها العجز عن التنفّس ، وأدركت أنه ما كان يجدر بها أن تحتفظ بكل تلك الأشياء الصغيرة في روحها وتجعلها تكبر ... هي أدركت أنّ الغياب مُبتذل ، والأحلام الطفولية الباذخة باتت أيضاً مبتذلة ..
هي تعجز عن اخبار العابرين في أيامها " وهم بالمناسبة كُثر " أنهم غيروا ملامحها البريئة واستحال اللّمعان في عينيها مطر يهطل على قلبها فيوجعها ، وأنّ جميع الحزن والفجائع التي جمعتها من قلوبهم تبقيها في الدرك الأسفل من الحياة وأنّه لم يعد هناك من شيء مُحبب لديها وأنّ الأرض كبيرة جدا مما جعل الصّباحات تتأخر " وهي بالمناسة تكره الظلام " .. لذلك كان لزاماً عليها أن تبقى على عتبات أنصاف أصدقاء وأنصاف أحلام ، وأنصاف حنين .
تلك الصبيّة كانت تحاول أن تحكي كل تلك الأشياء التي تخبئها في صدرها المتعب ، بأنّها كانت تسمع أصدقاءها يخبرون الآخرين بأنها صديقتهم الطيّبة وبأنها لمّا كانت تراهم يصنعون لها الأشياء الجميلة ويهدونها قطعاً من السكّر ، كانت تلمس أيدهم وتحسّها باردة ولا تشعرها إلا بالوجع ، ذلك أنها لم تكن تدرك أن لهم فيها مآرب أخرى بعيدة عن الرّبيع الذي كانت تظن ..
كم تمنّت أن تمتد لها يد بيضاء من غير سوء ، يد لا تشبه أيدهم الباردة التي تألفها ، يد لا تحرّك الحزن فيها بل تكون برداً وسلاما ، يد تستظل بظلّها عندما يهطل المطر من أفواه الأصدقاء ، يد تغرس حياة أخرى صغيرة في روحها .
تلك الصبيّة بين زحمة الوجوه والأشخاص ، كانت كأنها خفيّة ، كأنّ لا صوت لها وكأن قلبها لا يصدر أي ضجيج ، قد مسّها الضّر وباتت عاجزة عن الحركة أو التنفّس وكأنّ رئتيها امتلأت بماء مالح وتتضاءل أمام التّعب انسانيّتها المرهفة .
هي لمّا أرهقها الوجع ،،، بكت ، لكن بصمت مؤلم وبهدوء مزعج .